مما لا شك فيه أنه بالتعليم و التوعية ستتمكن أي بلد من تغيير ثقافة أفرادها الى ثقافة تواكب النمو و التطور العالمي. و هذا أحد أدوار الحركات الاجتماعية في السعي نحو تحقيق التنمية الاقتصادية و الثقافية و ذلك من خلال دعم تطور الحركات المدنية و تهيئة المجتمع لقبول الجديد واحترام البحث و الابتكار والمبادرة بالاضافة لترسيخ نظام اجتماعي يحترم حقوق الانسان و يحث على التسامح اتجاه الغير.
الثقافة و العصر الذهبي البريطاني
لقد أنهك الصراع و الانقسام الدائر في ليبيا حال هذا البلد على جميع الأصعدة و أن كان الأثر على الصعيد الاجتماعي و الاقتصادي هو الأكبر. و عند مطالعة التاريخ سنجد أمثلة عديدة على بلدان استطاعت التعويض عن فترات الحروب و الصراعات الدموية و خلقت منها فترات للنهضة و النماء و من هذه الأمثلة العصر الذهبي البريطاني في بداية عهد إليزابيث أدركت الملكة أن مملكتها كانت منهكة من الحروب الخارجية مع فرنسا و اسبانيا ناهيك عن الانشقاقات الداخلية بين الطوائف الدينية المتناحرة ولذلك عندما هزمت انجلترا الأرمادا الأسبانية اهتمت اليزابيث الأولى بالأمر الداخلي فحرصت على تشجيع التعليم و ذلك بفتح مدارس جديدة وإعطاء المزيد من الاهتمام للطلاب الراغبين في دراسة علوم الأدب والشعر مما شجع على الاهتمام بالأدب و فنون الطباعة مما أدى الى حدوث ثورة ثقافية ضخمة في ربوع البلاد وكان نتاجها مثلاً الأرث الأدبي لوليام شكسبير و عدد كبير من المسرحيين و الأدباء. و هكذا شهدت انجلترا في ذلك العصر احتشاد الجمهور على المسارح لمشاهدة المسرحيات الجديدة و كتب الشعراء السوناتات البليغة، و وضع الملحنين ابداعاتهم في معزوفات موسيقية المبتكرة. و تصدرت ترجمة الكتاب المقدس الجديدة أماكن الصدارة في الكنائس والمنازل و ازددات ثقة الملكة اليزابيث في قدرتها على خوض البحار لتوسيع نفوذها و زيادة ثرواتها و بالتالي دعمت إليزابيث المؤسسات التجارية الجديدة على الجانب الآخر من العالم في جنوب شرق آسيا و التي مهدت فيما بعد الطريق لتأسيس الإمبراطورية البريطانية و التي أدت إلى ازدهار التجارة و فتح باب جديد على عوالم و حضارات مختلفة و في نهاية المطاف حكمت المملكة البريطانية أغلب أرجاء العالم.
المعجزة في الاقتصاد
و لأن التاريخ زاخر بالأمثلة كما ذكرت و لتقارب أحداث الثورة الليبية من الثورة الفرنسية فقد وجدت في كتاب الآن بيرفت “المعجزة في الاقتصاد” العديد من الإضاءات عن مشاكلنا في ليبيا في الوقت الحالي , يتناول الكتاب مسألة ما إذا كان هناك شيء مميز في الشخصية الفرنسية و التي قد يكون السبب في بعض المشاكل التي واجهتها البلاد بصورة متكررة في ذلك العصر. و قد وضع بيرفت ملاحظاته وخبراته بصفته صحفي و كذلك بصفته وزير العدل في الحكومة الفرنسية و استطاع أن يربط في الكتاب بين الثقافة و التطور الاقتصادي و رأي أن أكبر المعوقات لتحقيق التنمية الشاملة في بعض المجتمعات هو الموروث الثقافي السائد في المجتمع و ما قد يشكله من عقبة نحو التنمية المرجوة وذلك لوجود حسب وجهة نظره تزامناً بين الثقافة والتنمية بمعنى أن سيادة ثقافة النمطية والتكرار ستؤدي لتحول المؤسسات التعليمية والتربوية إلى مؤسسات تساهم في تكريس هذا التكرار و تقف أمام عجلة التطوير و التنمية. أما إذا كانت الثقافة السائدة في المجتمع هي ثقافة التشجيع على الإبداع وتقديس التحصيل العلم و تنمية المدارك فإن بالتالي المؤسسات المعنية في الدولة أو الخاصة ستتحول إلى مصدر أساسي لانتاج مشروعات و أبحاث و أفكار تقدمية .
إذاً يصبح الأمر جلياً بأنه للوصول الى ما وصلت اليه بلدان كالنرويج و سنغافورة و راوندا من خلق نماذج اقتصادية و اجتماعية ناجحة يتوجب على الجهات المختصة القيام بدراسة نقدية موضوعية و جادة للثقافة السائدة في المجتمع الليبي و البحث في مكوناتها واستيعاب وجوه قصورها و ضعفها لخلق خطة واضحة للتنمية و التقدم تتناسب مع التركيبة الثقافية الليبية, و كما تتضح أهمية ادماج عامل التغير الثقافي من الحكومات و مؤسسات الدولة المهنية و مراكز البحوث و إعداد الدراسات عند تصميم المشاريع و الرؤى و السياسات و اعتبار هذا العامل من أولويات عملية التنمية الاقتصادية و أخيراً أهمية دور المنظمات الشبابية في العمل الدوؤب على الترويج لثقافة الابداع و كسر الافكار النمطية و تشجيع الافكار و الابحاث التقدمية.